الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
الجزء السابع {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين؛ فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال: {وليزيدَنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً} [المائدة: 64]، فكرّرها مرّتين وقال: {ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا} [المائدة: 80] وقال: {وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر} [المائدة: 61] فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهُم. وذَكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قوله: {يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة: 51] الآية. فجاء قوله: {لتجدنّ أشدّ الناس عداوة} الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين، ولذلك فُصلت ولم تعطف. واللام في {لتَجدنّ} لام القسم يقصد منها التأكيد، وزادته نون التوكيد تأكيداً. والوجدان هنا وِجدانٌ قلبي، وهو من أفعال العِلم، ولذلك يُعدّى إلى مفعولين، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة} في سورة البقرة (96). وانتصب عداوة} على تمييز نسبة {أشدّ} إلى النّاس، ومثله انتصاب {مودّة}. وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغض الإسلام؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم، والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل. وقوله: {ولتجدنّ أقربهم مودّة} أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام. وهذان طرفان في معاملة المسلمين. وبين الطرفين فِرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة. والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله: {أقربهم مودّة للذين آمنوا}. فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين. وقد تقدّم الكلام على نظير قوله: {الذين قالوا إنّا نصارى} في قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم} [المائدة: 14]، المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً لله {قالوا الحواريّون نحن أنصار اللّهِ} [الصف: 14]، كما تقدّم في تفسير نظيره. فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام. وقوله: {ذلك} الإشارة إلى الكلام المتقدّم، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا. والباء في قوله: {بأنّ منهم قسّيسين} باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل. والضمير في قوله {منهم} راجع إلى النصارى. والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين. ويقال قَسّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية. وقال قطرب: هي بلغة الروم. وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين. والرهبان هنا جمع راهب، مثل رُكْبان جمع راكب، وفُرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل. والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة. وقال الراغب: الرهبان يكون واحداً وجمعاً، فمَن جعله واحداً جمعَه على رهابين ورَهابنة. وهذا مروي عن الفرّاء. ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفرداً. وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي: لو أبصَرَتْ رهبانَ دَير بالجَبل *** لانحدر الرّهْبان يَسْعى ويزِل وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سبباً في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم. وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم. قال النابغة: لو أنَّها برزت لأشمَط راهِب *** عبدَ الإله صَرورة مُتَعَبِّد لرَنَا لطلعتها وحسن حديثها *** ولخَالَه رَشداً وإن لَم يَرْشَد فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سبباً في صلاح أخلاق أهل ملّتهم. والاستكبار: السين والتاء فيه للمبالغة. وهو يطلق على التكبّر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ، وهما متلازمان. فالمراد من قوله: {لا يستكبرون} أنَّهم متواضعون منصفون. وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {بأنّ منهم}، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر. وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق. قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين: مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم *** قويم فما يرجُون غيرَ العواقب ولا يحسبون الخيرَ لا شرّ بعده *** ولا يحسبون الشرّ ضربة لاَزب وظاهر قوله {الّذين قالوا إنّا نصارى} أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي، وهم نصارى العرب، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم. وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} عائد إلى {قسّيسين ورهباناً} لأنّه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله {وأنّهم}، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتَكون ضمائر الجمع من قوله {وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله} [المائدة: 83 85] تابعة لضمير {وأنّهم لا يستكبرون}. وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام. ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى: {وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها} [الروم: 9]. فضمير الرفع في {عمروها الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني. وكقول عبّاس بن مرداس: عُدْنَا ولولاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم *** بالمسلمين وأحرزُوا مَا جَمَّعوا يريد بضمير (أحرزوا) جماعة المشركين، وبضمير (جمَّعوا) جماعة المسلمين. ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما: أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِباً من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا. وهم: بَحِيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه. وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيراً بفضلهم. وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول. ولَعلّ اللّهَ أعلَم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلاّ شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام، وهؤلاء يشبه حالهم حالَ من لم تبلغه الدعوة، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب. ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن. ولا شكّ أنّ النجاشي (أصْحَمة) منهم. وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيء. والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين. والرسول هو محمّد كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن. وما أنزل إليه هو القرآن. والخطاب في قوله تَرى أعينهم} للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى. فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب. وقوله: {تفيض من الدمع} معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجاً عنه. يقال: فاض الماء، إذا تجاوز ظرفه. وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين. وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي، فيقال: فاض الوادي، أي فاض ماؤُه، كما يقال: جَرَى الوادي، أي جرى ماؤه. وفي الحديث: «ورَجُل ذكر الله خَالياً فَفَاضَتْ عيناه» وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون: فاضت عينه دمعاً، بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة، أي قرينة النسبة المجازية. فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون (مِنْ) الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز، لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة، قُلِب قولُ الناس المتعارف: فاضَ الدمع من عيننِ فلان، فقيل: {أعينَهم تفيض من الدمع}، فحرف (مِن) حرف ابتداء. وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت (مِن) بيانية جارّة لاسم التمييز. وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل: طبتَ النَّفْسَ. و (مِنْ) في قوله {مِمَّا عرفوا} تعليلية، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به. ف {مِن} قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله: {تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا} [التوبة: 92]، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين. و(مِن) في قوله {من الحقّ} بيانية. أي ممّا عرفوا، وهو الحقّ الخاصّ. أو تبعيضية، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله. وجملة {يقولون} حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا. وهذا القول يجوز أن يكون علناً، ويجوز أن يكون في خويّصتهم. والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم. وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة. وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادئ الأمر. كما قال ورقة: يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك. أي تكذيباً منهم. أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى. ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى «ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم». وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى «ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأببِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء». وإنّ لِكلمة {الحقّ} وكلمة {الشاهِدين} في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام. وقوله: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ}، هو من قولهم، فيحتمل أنّهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردّد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام. وذلك التردّد يعرض للمعتقد عند الهمّ بالرجوع في اعتقاده وهو المسمّى بالنظر؛ ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملّتهم أو من إخوانهم ويشكّكهم فيما عزموا عليه، ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعيّرهم من اليهود أو غيرهم بأنّهم لم يتصلّبوا في دينهم. فقد قيل: إنّ اليهود عَيّروا النفر الذين أسلموا، إذا صحّ خبر إسلامهم. وتقدّم القول في تركيب «ما لنا لا نفعل» عند قوله تعالى: {ومالكم لا تُقاتلون في سبيل الله} في سورة النساء (75). وجملة ونطمَع} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {ما لنا لا نؤمن}. ويحتمل أن تكون الواو للحال، أي كيف نترك الإيمان بالحقّ وقد كنّا من قبل طامعين أن يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مثل الحواريّين، فكيف نُفلت ما عَنّ لنا من وسائل الحصول على هذه المنقبة الجليلة. ولا يصحّ جعلها معطوفة على جملة {نؤمن} لئلا تكون معمولة للنفي، إذ ليس المعنى على ما لنا لا نطمع، لأنّ الطمع في الخير لا يتردّد فيه ولا يلام عليه حتّى يَحتاج صاحبه إلى الاحتجاج لنفسه بِ (ما لنا لا نفعل).
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} تفريع على قوله {يقولون: ربّنا ءامنّا...} [المائدة: 83] إلى آخر الآية. ومعنى (أثَابهم) أعطاهم الثواب. وقد تقدّم القول فيه عند تفسير قوله تعالى: {لَمَثُوبة من عند الله خير} في سورة البقرة (103). والباء في قوله بما قالوا} للسببية. والمراد بالقول قول الصادق وهو المطابق للواقع، فهو القول المطابق لاعتقاد القلب، وما قالوه هو ما حكي بقوله تعالى: {يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين..} [المائدة: 83] الآية. وأثابَ يتعدّى إلى مفعولين على طريقة باب أعطى، ف {جَناتٍ} مفعوله الثاني، وهو المعطَى لهم. والإشارة في قوله {وذلك جزاء المحسنين} إلى الثواب المأخوذ من {أثابهم} ولك أن تجعل الإشارة إلى المذكور وهو الجنّات وما بها من الأنهار وخلودهم فيها. وقد تقدّم نظير ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة (68) {عَوَان بيْنَ ذلك.}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} هذا تتميم واحتراس، أي والذين كفروا من النصارى وكذّبوا بالقرآن هم بضدّ الذين أثابهم الله جنّات تجري من تحتها الأنهار. وأصحاب الجحيم ملازموه. والجحيم جهنّم. وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها. يقال: نار جَحْمة، أي شديدة اللهب. قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة: نَحن حبسنَا بني جَديلةَ في *** نار من الحرب جَحْمَةِ الضرم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان. وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة. وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد. فقال أحدُهم: أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال الآخر: أمَّا أنا فأصوم النهار، وقال آخر: أمّا أنا فلا آتي النساء، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم، فقال: " ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا. قالوا: بَلَى يا رسول الله، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر، قال: لَكِنِّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي " فنزلت هذه الآية. ومعنى هذا في «صحيحي البخاري ومسلم» عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية. ورُوي أنّ ناساً منهم، وهم: أبو بكر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عُمر، وأبو ذرّ، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقدادُ بن الأسود، وسلْمان الفارسي، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا، ويتركوا النساء ويترهّبوا. فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة، ثم قال: " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية.. وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل: إنّها زوجة زيد بن ثابت، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة. وفي رواية: أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم النوم، وبعضهم النساء؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه. فنزلت هذه الآية. وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي. قال: قال لي رسول الله: " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ، قلت: إنّي أفعلُ ذلك. قال: فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك. وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً، فصم وأفطر وقُم ونَم " وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان: كُلْ فإنّي صائم، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فنام. فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، وقال سلمان: إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «صدقَ سلمانُ». وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي " والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس. أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس. وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلّع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع. وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم. وعن الحسن البصري: أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية. فسأله الحسن: أصائم أنت، قال: لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره، فقال له: الحسن: أفتشرب الماءَ البارد، قال: نعم، قال: إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ. وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به. ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة. ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال: الحلال عليّ حرام، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم، على حكم الاستثناء في اليمين. ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ. ووافقه الشافعي. وقال أبو حنيفة: من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة. وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها. وفي قوله تعالى: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية. ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام، وقد أبطلها الله بقوله: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق} [الأعراف: 32]، وقوله: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله} [الأنعام: 140]، وقوله: {قُل الذّكَرَيْننِ حَرّم أم الأنثيين إلى قوله {فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم} [الأنعام: 143، 144]، وغير ذلك من الآيات. وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله: {يدخلون في دين الله أفواجاً} [النصر: 2]. وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها. وجملة {ولا تعتدوا} معترضة، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله، فالواو اعتراضية. وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً. والاعتداء افتعال العدوْ، أي الظلم. وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذننِ المشروع، كما قال {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229]. فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس، وهو أشدّ الاعتداء، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس، كتناول الخنزير أو الميتة. ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد، وأكللِ مال اليتيم، وعضل الأيامَى، وغير ذلك. وجملة {إنّ الله لا يحبّ المعتدين} تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء. وقوله: {وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً} تأكيد للنهي عن تحريم الطّيبات وهو معطوف على قوله: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} أي أنّ الله وسّع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتُعرضوا عن النعمة.
واقتُصِر على الأكل لأنّ معظم ما حرّمه الناس على أنفسهم هو المآكل. وكأنّ الله يعرّض بهم بأنّ الاعتناء بالمهمّات خير من التهمّم بالأكل، كما قال {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] الآية. وبذلك أبطل ما في الشرائع السابقة من شدّة العناية بأحكام المأكولات. وفي ذلك تنبيه لِهذه الأمّة. وقوله {واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} جاء بالموصول للإيماء إلى علّة الأمر بالتقوى، أي لأنّ شأن الإيمان أن يقتضي التقوى، فلمّا آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكمِّلوه بالتقوى. روي أنّ الحسن البصري لقيَ الفرزدق في جنازة، وكانا عند القبر، فقال الحسن للفرزدق: ما أعدَدْت لهذا. يعني القَبر. قال الفرزدق: شهادة أن لا إله إلاّ الله كذا كذا سنة. فقال الحسن: هذا العمود، فأين الأطْناب.
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام، كأنْ يقول: والله لا آكل كذا، أو تجري بسبب غضب. وقيل: إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله. روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى: {يأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87] ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك، كما تقدّم آنفاً، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها، فأنزل الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} الآية. فشرع الله الكفّارة. وتقدّم القول في نَظير صدر هذه الآية في سورة البقرة. وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين. وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية {يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87]، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين. فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم. وقوله: {بما عَقَّدْتُمْ الأيمان}، أي ما قصدتم به الحَلف. وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة (225) {بما كَسَبَتْ قلوبُكم} وقَرَأ الجمهورُ عقَّدتم} بتشديد القاف. وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بتخفيف القاف. وقرأه ابن ذكوان عن ابننِ عامر {عَاقدتم} بألف بعد العين من باب المفاعلة. فأمّا {عقّدتم} بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد، وكذلك قراءة {عاقدتم} لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها، فالمقصود منها المبالغة، مثل عافَاه الله. وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت. والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب: عقَد المخفّف، وعقَّد المشدّد، وعَاقَد. وقوله: {ذلك كفّارة أيمانكم} إشارة إلى المذكور، زيادة في الإيضاح. والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال. وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسَّابة وعلاّمة. والعرب يجمعون بينهما غالباً. وقوله: {إذا حلفتم} أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحِنث. وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله: {كفّارة أيمانكم إذا حلفتم} على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة {كفّارة} إلى {أيمانكم}، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض، ولا بأس به. ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك. وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة. وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة. وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث. ولم يستدلّ بالآية. فاستدلّ بها الشافعي تأييداً للسنّة. والتكفيرُ بعد الحنث أولى. وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال {واحفظوا أيمانكم}. فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضُرّ بالغير، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى. فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلاّ يندموا عن عزمهم، فكان في قوله {واحفظوا أيمانكم} زجر لهم عن تلك العادة السخيفة. وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلاّ يعرّض الحالف نفسه للحنث. والكفّارة ما هي إلاّ خروج من الإثم. وقد قال تعالى لأيّوب عليه السلام: {وخُذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنَث} [ص: 44]. فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها. وجملة {كذلك يبيّن الله لكم آياته} تذييل. ومعنى {كذلك} كهذا البيان يبيّن الله، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّناً، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة البقرة (143). وتقدّم القول في معنى لعلّكم تشكرون} عند قوله تعالى: {يأيّها الناس اعبدوا ربّكم} في سورة البقرة (21).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله: {ولا تعتدوا} [المائدة: 87] المشير إلى أنّ الله، كما نَهى عن تَحريم المباح، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإنّ الخمر كان طيّباً عند الناس، وقد قال الله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} [النحل: 67]. والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه. فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قوله {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [الأنعام: 87]. وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجاً ثلاث مرات: الأولى حين نزلت آية {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، وذلك يتضمّن نهياً غير جازم، فتَرك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى. فقال عمر: اللّهمّ بَيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. ثم نزلت آية سورة [النساء: 43] {يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتّى تعلموا ما تقولون}، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة؛ فقال عمر: اللّهم بيِّن لنا في الخمر بَيَاناً شافياً. ثم نزلت الآية هذه. فقال عمر: انتهينا. والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا. وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرَت بين سعد بن أبي وقاص ورجللٍ من الأنصار. روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال: أتيتُ على نفر من الأنصار، فقالوا: تعالَ نطعِمْك ونُسقك خمراً وذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حُشّ، وإذا رأسُ جَزور مشوي وزقّ من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلتُ: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ جَمَل فضربني به فجَرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته، فأنزل الله تعالى فِيّ إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}. وروى أبو داود عن ابن عبّاس قال: {يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] و{يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] نسختهما في المائدة {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}. فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّماً للأمّة في إيضاح أسبابه رفقاً بهم واستئناساً لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، ثم بآية سورة النساء، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: {لعلّكم تفلحون}، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء}. ثم قال {فهل أنتم منتهون}، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيَّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه. وصيغة: هل أنت فاعل كذا. تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء، نبّه عليه في «الكشاف» عند قوله تعالى: {وقيل للنّاس هَلْ أنتم مُجتمعون} في سورة [الشعراء: 39]، قال: ومنه قول تأبّط شرّاً: هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا *** أو عَبْدِ ربّ أخَا عَوْننِ بننِ مِخْرَاقِ (دينار اسم رجل، وكذا عبد ربّ. وقوله: أخا عون أو عوف نداء، أي يا أخا عون). فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله أن لا ينتبذوا في الحَنتم والنقير والمُزَفَّت والدّبَّاءِ، لأنَّها يسرع الاختمار إلى نبيذها. والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب. والمراد بالأزلام الاستقسام بها، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر. قال في الكشاف}: ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر. وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى: {وما ذُبح على النّصُب} [المائدة: 3]، والكلام على الأزلام عند قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} في أول هذه السورة [3]. وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذُبح على النُصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة. والمرادُ بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها، كلّ بما يُتعاطى به من شُرْب ولعب وذَبح واستِقسام. والقصرُ المستفاد من إنّما} قصرُ موصوف على صفة، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة. ألا ترى أنّ الله قال في سورة [البقرة: 219] في الخمر والميسر {قل فيهما إثم كبير ومَنَافع للناس}، فأثبت لهما الإثم، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس. وأثبت لهما المنفعة، وهي صفة تساوي نقيض الرجس، في نظر الشريعة، لأنّ المنفعة تستلزم حرصَ الناس على تعاطيهما، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين. وقد قُصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس، فما هو إلاّ قَصْر ادّعائي يشير إلى ما في سورة [البقرة: 219] من قوله: {وإثمُهما أكبر من نفعهما}، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قُبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب {فيهما إثم} [البقرة: 219]، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله: {إنْ حسابُهم إلاّ على رَبِّي} [الشعراء: 113]، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف. وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس. والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله: {وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125]، وقوله: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} [الأحزاب: 33]. والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبارِ الشريعة. وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس. ولذلك أيضاً أفرد (رجس) مع كونه خبراً عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر. ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيَها بما تُتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان، وذلك ممّا تأباه النفوس. والفاء في {فاجتنبوه} للتفريع وقد ظهر حُسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها. والضمير المنصوب في قوله {فاجتنبوه} عائد إلى الرجس الجامع للأربعة. و{لعلّكم تفلحون} رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم يكونوا قد استمرّوا على غيرها من المنهيات. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {يأيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} [البقرة: 21]. وقد بيّنت ما اخترته في محل (لعلّ) وهو المطّرد في جميع مواقعها، وأمّا المحامل التي تأوّلوا بها (لعلّ) في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتّى في هذه الآية فتأمّلْه. واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها. ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لِمن عَصَر العنب لاتّخاذه خلاً، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه. فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملاً للفظ الرجس على جميع ما يحتمله. وهو قول مالك. ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر. وليس في الأثر ما يحتجّ به لنجاسة الخمر. ولعلّ كون الخمر مائعة هو الذي قرّب شبهها بالأعيان النجسة، فلمّا وُصفت بأنّها رجس حُمل في خصوصها على معنييه. وأمّا ما ورد في حديث أنس أنّ كثيراً من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها لذلك من المبالغة في التبرّئ منها وإزالة أثرها قبل التمكّن من النظر فيما سوى ذلك، ألا ترى أنّ بعضهم كسر جرارها، ولم يَقُل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس. على أنّهم فعلوا ذلك ولم يُؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب بعض أهل العلم إلى عَدم نجاسة عين الخمر. وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمان، والليث بن سعد، والمُزني من أصحاب الشافعي، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحَدّاد القيرواني. وقد استدلّ سعيد بن الحدّاد على طهارتها بأنّها سُفِكت في طرق المدينة، ولو كانت نجساً لنهوا عنه، إذ قد ورد النهي عن إراقة النجاسة في الطرق. وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولاً بطهارة عين الخمر من المذهب. وأقول: الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليستْ نَجَس العين، وأنّ مسَاق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنّما القصد أنّها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنّه من عَمَل الشيطان، وبيّنه بعدُ بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة}، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس. وجملة {إنّما يريد الشيطان} بيان لكونها من عمل الشيطان. ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل} في سورة [النساء: 44]. وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} في هذه السورة [64]. وقوله: في الخمر والميسر} أي في تعاطيهما، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر، والغيظ والحسرة للخاسر، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب. على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمْر أمّة بين أفرادها البغضاء. وفي الحديث: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً» و (في) من قوله {في الخمر والميسر} للسبيبة أو الظرفية المجازية، أي في مجالس تعاطيهما. وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلِما في الخمر من غيبوبَة العقل، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح. وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مُقتضياً تغليظ التحريم. ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قِمار كالشطرنج دون قِمار، فذلك دون الميسر، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالباً، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى. والذّكر المقصود في قوله: {عن ذكر الله} يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماععِ خُطبه، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئاً كثيراً فيه ما يجب على المكلّف معرفته. فالسيء الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهَى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب: أفضلُ من ذكر الله باللسان ذِكرُ الله عند أمره ونهيه. فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي. وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله: {وعن الصلاة}. وقوله: {فهل أنتم منتهون} الفاء تفريع عن قوله: {إنّما يريد الشيطان} الآية، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعاً بهم إلى مقام الفَطن الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز. ولذلك اختير الاستفهام ب {هل} التي أصل معناها (قد). وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام، فاستغنوا ب {هل} عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهاممٍ مضمَّن تحقيقَ الإسناد المستفهَم عنه وهو {أنتم منتهون}، دون الهمزة إذ لم يقل: أتنتهون، بخلاف مقام قوله {وجَعَلنا بعضَكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20]. وجعلت الجملة بعد {هل} اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأريد معها معناه الكنائي، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه. ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال: «انتهينا انتهينا». ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّداً عن الكناية. فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله «إلاّ أنّ الله تعالى قال {فهل أنتم منتهون} فقلْنا: لا» إن صحّ عنه ذلك. ولي في صحته شكّ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل. وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يُدرى مبلغها من الصحّة. ومحملها، إنْ صحّت، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} على أنّه نهي غير جازم. ولم يَطُل ذلك بينهم. قيل: إنّ قُدامَة بن مظْعون، مِمَّن شهد بدراً، ولاّه عُمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة. فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة: لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عُمر: لِمَ، قال: لأنّ الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} [المائدة: 93]، فقال عمر: أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك». ويروى أنّ وحشياً كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93]، وأنّ عمر استشار عليّاً في شأنهم، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا. وفي صحة هذا نظر أيضاً. وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمراً، فقال عيينةُ: أو ليس قد حرّمها الله. قال عَمْرو: أنتَ أكبَرُ سِنّاً أم أنا، قال عيينة: أنتَ. قال: أنتَ أقدَمُ إسلاماً أم أنا، قال: أنتَ. قال: فإنّي قد قرأتُ ما بين الدفتين، فوالله ما وجدت لها تحريماً إلاّ أنّ الله قال: فهل أنتم منتهون، فقلنا: لا». فبات عنده وشربَا وتنادما، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن: جُزيت أبَا ثَوْر جَزَاء كرامةٍ *** فنِعْم الفتى المُزْدَار والمُتَضَيِّف قَرَيْتَ فأكْرَمتَ القِرى وأفدْتَنَا *** تَحِيَّةَ عِلْم لم تَكن قبلُ تُعرف وقلتَ: حلال أن ندِير مُدامة *** كَلَوْن انعِقَاققِ البَرْققِ والليلُ مُسدف وقَدّمْتَ فيها حُجَّة عربيَّة *** تَرُدّ إلى الإنصاف مَن ليس يُنْصِفُ وأنتَ لنا واللّهِ ذي العرش قُدوَة *** إذا صدّنا عن شُرْبها المُتكَلِّفُ نَقُول: أبُو ثَوْر أحَلّ شَرَابَهَا *** وقولُ أبي ثَوْر أسَدّ وأعْرف وحذف متعلّق {منتهون} لظهوره، إذ التقدير: فهل أنتم منتهون عنهما، أي عن الخمر والميسر، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله: {إنّما يريد الشيطان} يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء. واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} عطفت جملة {وأطيعوا} على جملة {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، وهي كالتذييل، لأنّ طاعة الله ورسوله تعمّ ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعمّ غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب. وكرّر {وأطيعوا} اهتماماً بالأمر بالطاعة. وعطف {واحذَروا} على {أطيعوا} أي وكونوا على حذر. وحذف مفعول {احذروا} ليُنَزّلَ الفعلُ منزلة اللازم لأنّ القصد التلبّس بالحذر في أمور الدين، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما، لأنّ الفعل اللازم يقرُب معناه من معنى أفعال السجايا، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زِنة فَعِللٍ كفرِح ونَهِممٍ. وقوله: {فإن تولّيتم} تفريع عن {أطيعوا واحذروا}. والتولّي هنا استعارة للعصيان، شُبّه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصِي، بجامع المقاطعة والمفارقة، وكذلك يطلق عليه الإدبار. ففي حديث ابن صياد «ولئنْ أدْبَرْتَ ليَعْقَرَنَّك الله» أي أعرضتَ عن الإسلام. وقوله: {فاعلموا} هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأنّ المعنى: فإن تولّيتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضرّ تولّيكم الرسولَ لأنّ عليه البلاغ فحسب، أي وإنّما يضرّكم تولّيكم، ولولا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولّي وبين علمهم أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلاّ بالتبليغ. وذكر فعل {فاعلموا} للتنبيه على أهمية الخبر كما بيّنّاه عند قوله تعالى: {واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه} في سورة البقرة (223). وكلمة أنّما} بفتح الهمزة تقيّد الحصر، مثل (إنّما) المكسورةِ الهمزة، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتّفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنّها فرع عن المكسورة إذ هي أختها. ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر، والمعنى أنّ أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلّغ إليهم. وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنّه رسول من القادر على كلّ شيء، فلو شاء مُرسله لهَدَى المرسَلَ إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول. ووصفُ البلاغ ب {المُبين} استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مُؤيَّداً بالحجّة الساطعة.
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان. فقد كان سببُ نزول هذه الآية ما في «الصحيحين» وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وابن عبّاس، أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيفَ بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمرَ أوْ قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر. فأنزل الله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية. وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القِمار، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يَطعَمُونها. فأنزل الله هذه الآيات. وقد يَلُوح ببادئ الرأي أنّ حال الذين تُوُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقاً بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحداً بعمل لم يكن محرّماً من قبل فعله، وأنّه لا يؤاخذ أحداً على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خَشُوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم. كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95] فقال: يا رسول الله، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر فأنزل الله {غيرَ أولِي الضّرر} [النساء: 143]. وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليُضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، أي صلاتَكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم. ونفيُ الجناح نفي الإثم والعصيان. و(مَا) موصولة. و{طَعموا} صلة. وعائد الصلة محذوف. وليست (ما) مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموهُ معلوممٍ من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجُناح هو على تقدير: في طَعْم ما طعموه. وأصل معنى {طَعِموا} أنّه بمعنى أكلوا، قال تعالى: {فإذا طعِمتم فانتشروا} [الأحزاب: 259]. وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طَعام. وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عُطف في قوله تعالى {فانظُر إلى طعامك وشَرابك لم يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]. ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقاً أهلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]. ويقال: طَعِم بمعنى أذَاق ومصدره الطُّعْم بضمّ الطاء اعتبروه مشتَقّاً من الطَّعْم الذي هو حاسّة الذوق. وتقدّم قوله تعالى {ومن لم يطْعَمه فإنّه منّي} [البقرة: 249]، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله {فمن شرب منه} [البقرة: 249]. ويقال: وجَدت في الماء طعْم التراب. ويقال تغيّر طعم الماء، أي أسِنَ. فمن فصاحة القرآن إيراد فعل {طَعِمُوا} هنا لأنّ المراد نفي التَّبِعَة عمَّن شربوا الخمر وأكلوا لحم المَيْسر قبل نزول آية تحريمهما. واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب. وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله {طعموا} تعيّن أن يكون {إذا} ظرفاً للماضي، وذلك على أصحّ القولين للنحاة، وإن كان المشهور أنّ (إذا) ظرف للمستقبل، والحقّ أنّ (إذا) تقع ظرفاً للماضي. وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في «مغني اللبيب». وشاهده قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92]، وقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، وآيات كثيرة. فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا، ويؤوّل معنى الكلام: ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّماً يومئذٍ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلاّ قبل تحريمهما. هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جارياً على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة. ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر. وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيَّة السبب بل يُعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب، فقالوا: رَفَع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها، إذا ما اتّقوا ما حَرّم الله عليهم، أي ليس من البرّ حرمانُ النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى} [البقرة: 189]. وفَسَّر به في «الكشاف» مبتدئاً به. وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلاً بآية: {يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم}، فتكون استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّباتتِ ما أحلّ الله لهم بنذرٍ أو يميننٍ على الامتناع. وادّعى بعضهم أنّ هذه الآية نزلت في القوم الذين حَرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهّب. ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصحّ أنّ هذا سبب نزولها. وعلى هذا التفسير يكون {طعِموا} مستعملاً في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة (إذا) مستعملة في المستقبل، وفعل {طعِموا} من التعْبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة (إذا)، كما في قوله تعالى: {ثمّ إذَا دَعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25]. ويعكّر على هذا التفسير أنّ الذين حرّموا الطيّبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم. وقال الفخر: زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعِمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] ولا شكّ أنّ (إذا) للمستقبل لا للماضي. قال الفخر: وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة. وأمّا قولهم (إذا) للمستقبل، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين. والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطْف {وعملوا الصالحات} على {اتَّقَوْا} من عطل الخاصّ على العامّ، للاهتمام به، كقوله تعالى: {مَن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل}، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ. وأمّا عطف {وآمَنُوا} على {اتّقوا} فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى {فَكّ رقبةٍ أو أطعام} إلى قوله ثُمّ كان من الذين آمنوا. والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجردّ التنويه بالتقوى والإيماننِ والعمللِ الصالح، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيَّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثراً على فِعْله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبلُ، وكان الإيمان عَقداً عقلياً لا يقبَل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله: {وآمنوا} معنى ودَاموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر. وجملة {ثمّ اتَّقوا وآمنوا} تأكيد لفظي لجملة {إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} وقُرن بحرف {ثمّ} الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماءاً إلى الازدياد في التقوى وآثارِ الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى: {كلاّ سيعلمون ثمّ كلاّ سيعلمون} [النبإ: 4، 5] ولذلك لم يكرّر قوله: {وعملوا الصالحات} لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى. وأمّا جملة {ثمّ اتّقوا وأحسنوا} فتفيد تأكيداً لفظياً لجملة {ثمّ اتّقوا} وتفيد الارتقاء في التقوء بدلالة حرف {ثمّ} على التراخي الرتبي. مع زيادة صفة الإحسان. وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإحيان بقوله: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وهذا يتضمَّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة {وآمنوا} هنا. ويشمل فعل {وأحسنوا} الإحسانَ إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأنّ منه إحساناً غير واجب وهو ممّا يَجلب مرضاة الله، ولذلك ذيّله بقوله: {والله يحبّ المحسنين}. وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله: {ثمّ اتّقوا} على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال. وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى {إذا ما اتّقوا} وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط. وفي جلبها طول. وقد تقدّم أنّ بعضاً من السلف تأوّل هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتّقى الله فيما عدّ، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرّمات، ولا إلى إضرار الناس. وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون، كما تقدّم في تفسير آية تحريم الخمر: وأنّ عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب لم يقبلاه منه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورة {غير محلّى الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1]، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيداً لقوله: {يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم. وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأنّ قوله {ليبلونّكم} ظاهر في الاستقبال، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل. والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا. وقد روي عن مقاتل: أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيَهم صيد كثير في طريقهم، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم، فمنهم المُحِلّ ومنهم المُحرِم، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي، وصيد بعضه بالرماح. ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط، فاختلفت أحوالهم في الإقدَام على إمساكه. فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه. فنزلت هذه الآية اه. فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقاً، لتكون تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثلَ ما حلّ بهم يوم الحديبية. وكانوا في حجّة الوداع أحْوج إلى التحذير والبيان، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب، فذلك يبيّن معنى قوله {تناله أيديكم ورماحكم} لإشعار قوله {تناله} بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ. والخطاب للمؤمنين، وهو مجمل بيّنه قوله عقبه {يأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95]. قال أبو بكر بن العربي: اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما: أنّهم المحلّون، قاله مالك، الثاني: أنّهم المحرمون، قاله ابن عباس وغيره اه. وقال في «القبس»: تَوهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام، وهذه عُضْلة، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اه. ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج. قال ابن العربي في «الأحكام»: «إنّ قوله {ليبلونّكم} الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المُحِلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد. والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتبايَن في الضعف والشدّة». يريد أنّ قوله: {ليبلونّكم الله بشيء من الصيد} لا يراد به الإصابة ببلوى، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد. وهذا ينظر إلى أنّ قوله تعالى: {وأنتم حرم} [المائدة: 95] شامل لحالة الإحراممِ والحلوللِ في الحرم. وقوله: {ليبلونّكم الله بشيء من الصيد} هو ابتلاء تكليف ونهي، كما دلّ عليه تعلّقه بأمر ممّا يفعل، فهو ليس كالابتلاء في قوله: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155] وإنّما أخبرهم بهذا على وجه التحذير. فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه، وهو التحذير. ويتعيّن أن يكون هذا الخطاب وُجّه إليهم في حين تردّدهم بين إمساك الصيد وأكله، وبين مراعاة حرمة الإحرام، إذ كانوا مُحرمين بعمرة في الحديبية وقد تردّدوا فيما يفعلون، أي أنّ ما كان عليه الناس من حِرمة إصابة الصيد للمُحْرِم معتدّ به في الإسلام أو غير معتدّ به. فالابتلاء مستقبل لأنّه لا يتحقّق معنى الابتلاء إلاّ من بعد النهي والتحذير. ووجود نون التوكيد يعيّن المضارع للاستقبال، فالمستقبل هو الابتلاء. وأمّا الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حَاضر. والصيد: المصيد، لأنّ قوله من الصيد وقع بياناً لقوله {بشيء}. ويغني عن الكلام فيه وفي لفظ (شيء) ما تقدّم من الكلام على نظيره في قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} في سورة البقرة (155). وتنكير شيء هنا للتنويع لا للتحقير، خلافاً للزمخشري ومن تابَعه. وأشار بقوله: {تناله أيديكم ورماحكم} إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره. فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحِبالات وجوارح، لأنّ جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد. وكانوا يعْدُون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحُمر الوحشية وبقر الوحش، كما في حديث أبي قتادة أنّه: رأى عام الحديبية حماراً وحشياً، وهو غير محرم، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشدّ وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به.. إلخ. وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيّهم، كما في حديث «الموطأ» «عن زيد البَهْزي أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكّة فإذا ظبي حاقف فيه سَهم» الحديث. فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قُتْرة ويمسك قوسه فإذا مرّ به الصيد رماه بسهم. قال ابن عطية: وخصّ الرماح بالذكر لأنّها أعظم ما يجرح به الصيد. وقد يقال: حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط. وجملة {تناله أيديكم} صفة للصيد أو حال منه. والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلاّ يتوهّم أنّ التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه. وقوله: {لِيَعْلَمَ اللّهُ من يخافه بالغيب} علّة لقوله {ليبلونّكم} [المائدة: 94] لأنّ الابتلاء اختبار، فِعلّته أن يعلم الله مِنه من يخافه. وجَعْل علم الله علّة للابتلاء إنّما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كلّ من علم الله أنّه يخافه، فأطلق علم الله على لازِمه، وهو ظهور ذلك وتميّزه، لأنّ علم الله يلازمه التحقّق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلاّ موافقاً لما في نفس الأمر، كما بينّاه غير مرّة؛ أو أريد بقوله: {ليعلم الله} التعلّق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلّفين، بناء على إثبات تعلّق تنجيزي لصفة العلم، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في «الرسالة الخاقانية». وقيل: أطلق العلم على تعلّقه بالمعلوم في الخارج، ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أنّ هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين. وقال ابن العربي في القبس: «ليعلم الله مشاهدةً مَا علمه غيباً من امْتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنّه، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيبَ أوّلاً، ثم يَخلق المعدوم فيَعْلَمُه مشاهدة، يتغيّر المعلوم ولا يتغيّر العلم». والباء إمّا للملابسة أو للظرفية، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في {يخافه}. والغيب ضدّ الحضور وضدّ المشاهدة، وقد تقدّم في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] على أحد وجهين هنالك، فتعلّق المجرور هنا بقوله {يخافه} الأظهر أنّه تعلّق لمجرّد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز، كقوله تعالى: {ويقتلون النبيئين بغير حقّ} [البقرة: 61]. أي من يخاف الله وهو غائب عن الله، أي غير مشاهد له. وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب. قال تعالى: {إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير} [الملك: 12]. وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنوّر البصيرة، فإنّهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنّهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال. وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي: " إنّهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني " ومن المفسرين من فسّر الغيب بالدنيا. وقال ابن عطية: الظاهر أنّ المعنى بالغيب عن الناس، أي في الخلوة. فمن خاف الله انتهى عن الصيد في ذات نفسه، يعني أنّ المجرور للتقييد، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتّقى إنكارهم عليه أو صدّهم إيّاه وأخذَهم على يده أو التسميع به، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أنّ الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم، أي كانوا متمكّنين من أخذه بدون رقيب، أو يكون الصيد المحذّر من صيده مماثلاً لذلك الصيد. وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله {ليبلونّكم}، إذ قد أشعر قوله: {ليبلونّكم} أنّ في هذا الخبر تحذيراً من عمل قد تسبق النفس إليه. والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من {ليبلونّكم}، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع. والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم. وقوله: {فله عذاب أليم}، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما، وبما خالف إنذار الله تعالى، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام، والكفارة هي جزاء الصيد، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: العذاب الأليم أنّه يوسَع بطنُه وظهرُه جلْداً ويُسلَبُ ثيابَه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية». فالعذاب هو الأذى الدنيوي، وهو يقتضي أنّ هذه الآية قرّرت ما كان يفعله أهل الجاهلية، فتكون الآية الموالية لها نسخاً لها. ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدلّ ذلك على أنّه أبطل بما في الآية الموالية، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها. ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم. فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلاّ التوبة، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديباً، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام، والظاهر أنّ سَلَبَه كان يأخذه فقراء مكة مثل جِلال البُدن ونِعالها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} استئناف لبيان آية: {ليبلونّكم الله بشيء من الصيد} [المائدة: 94] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكماً لم يبق به عمل. وتقدّم القول في معنى {وأنتم حرم} في طالع هذه السورة [المائدة: 1]. واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين: حال كون الصائد محرِماً، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالاً؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه. قال النابغة: والمؤمننِ العائذاتتِ الطيرَ يمسحُها *** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد فالتحريم لصيد حيوان البرّ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر. ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة. وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم. والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه. ويلحق بالصيد الوحوش كلّها. قال ابن الفرس: والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ، كما يقال: بئس الرميَّة الأرنب، وإن لم ترم بعد. وخصّ من عمومه ما هو مضرّ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير. ودليل التخصيص السنّة. وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد. ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم. وقوله: {وأنْتم حُرُم} حُرُم جمع حرام، بمعنى مْحرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة. ويطلق المحرم على الكائن في الحرم. قال الراعي: قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرماً *** أي كائناً في حرم المدينة. فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة. وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده. فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق. وفي صيده الجزاء. وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي. وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب. وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر (جبل) إلى ثور " قيل: هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة. قال النووي: أكثر الرواة في كتاب «البخاري» ذكروا عيَراً، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال: من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ. وقيل: إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني. وقيل: ثور جبل صغير وراء جبل أحُد. وقوله: {ومن قتله منكم} الخ، (مَن) اسم شرط مبتدأ، و{قتله} فعل الشرط، و{منكم} صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا. وفائدة إيراد قوله {منكم} أعرض عن بيانها المفسّرون. والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدّم آنفاً. وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل. وقوله {متعمّداً} قيد أخرج المخطئ، أي في صيده. ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطئ أنّهما يكفّران. ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة. وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار: إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم، أي قاسه على الغُرم. والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما. ومضى بذلك عمل الصحابة. وقال أحمد بن حنبل، وابن عبد الحكم من المالكية، وداوود الظاهري، وابن جبير وطاووس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد: لا شيء على الناسي. وروي مثله عن ابن عباس. وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وابن جريج: إن كان متعمّداً للقتل ناسياً إحرامه فهو مورد الآية، فعليه الجزاء. وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه، وصيده جيفة لا يؤكل. والجزاء العوض عن عمل، فسمّى الله ذلك جزاء، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار. وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه. وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء. وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده. وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه {ليذوق وبال أمره}. وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى: {جزاءاً وفاقاً} [النبأ: 26]. وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير، وأكثر صيد العرب من الدوابّ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة. وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا. وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة. وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد. والقيمة عند مالك طعام. وقال أبو حنيفة: دارهم. فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً، ولكسر المدّ يوماً كاملاً. وقال أبو حنيفة: يشتري بالقيمة هدياً إن شاء، وإن شاء اشترى طعاماً، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً. وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزئ في الضحايا والهدايا. فقال مالك: لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال: {هدياً بالغ الكعبة}. فما لا يجزئ أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام. وقال مالك في «الموطأ»: وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره. وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة. وقال الشافعي وبعض علماء المدينة: إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في «الموطأ» عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة. قال الحفيد ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد»: وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود اه. وأقول: لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة}. فإنّ ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزئ في الهدايا. فمن العجب قول ابن العربي: إنّ قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا. ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا. والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام. ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها، خلافاً لداوود الظاهري، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله. وقرأ جمهور القرّاء {فجزاء مثل ما قتل} بإضافة {جزاء} إلى {مثل}؛ فيكون {جزاء} مصدراً بدلاً عن الفعل، ويكون {مثلُ ما قتل} فاعل المصدر أضيف إليه مصدره. و{من النعم} بيان المثل لا ل {مَا قتَلَ}. والتقدير: فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله، أي يكافئ ويعوّض ما قتله. وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي. ولك أن تجعل الإضافة بيانية، أي فجزاء هو مثل ما قتل، والإضافة تكون لأدنى ملابسة. ونظيره قوله تعالى: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} [سبأ: 37]. وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]، أي فليحرّر رقبة. وجعله صاحب «الكشاف» من إضافة المصدر إلى المفعول، أي فليجز مثلَ ما قتلَ. وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل (جزى) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه. تقول: جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهماً، ولا تقول: جزيْت كذا درهماً بما أتلفته، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ (مثل) مقحماً. ونظّروه بقولهم: «مثلك لا يبخل»، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري. وسكت صاحب «الكشاف» عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام «الكشاف» على لزوم جعل لفظ {مثل} مقحماً وأنّ الكلام على وجه الكناية، يعني نظير {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وكذلك ألزمه إياه التفتزاني، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل. وهو اعتذار ضعيف. فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله. وقد اجترأ الطبري فقال: أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي. وقرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، والكسائي، وخلف {فجزاءٌ مثلُ} بتنوين (جزاء). ورفع (مثل) على تقدير: فالجزاء هو مثلُ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد. وقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} جملة في موضع الصفة ل {جواء} أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه. والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين. وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما. ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره. وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان. ووُصف {ذوا عدل} بقوله: {منكم} أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء. وقوله: {هدياً بالغ الكعبة} حال من {مثل ما قتل}، أو من الضمير في (به). والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة. والمنحر: منى والمروة. ولما سمّاه الله تعالى {هدياً} فله سائر أحكام الهدي المعروفة. ومعنى {بالغ الكعبة} أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة. وقوله: {أو كفّارة طعام مساكين} عطف على {فجزاء} وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة. وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة. وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين. فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين. وهو قول الأكثر من العلماء. وعن ابن عباس: تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً. وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد. قال مالك: أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين. ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام. فعن ابن عباس: تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً، وحمار الوحش بثلاثين، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين. و {أو} في قوله {أو كفارة طعام مساكين} وقوله: {أو عدل ذلك} تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة. وكذلك كل أمر وقع ب«أو» في القرآن فهو من الواجب المخيّر. والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل: الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين. وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل: الخيار للحكمين. وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن. ومن العلماء من قال: إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام، فهي عندهم على الترتيب. ونسب لابن عباس. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {كفّارةُ} بالرفع بدون تنوين مضافاً إلى طعام كما قرأ {جزاءُ مثللِ ما قتلَ}. والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى: {فجزاء مثللِ ما قتل} فنجعل {كفارة} اسم مصدر عوضاً عن الفعل وأضيف إلى فاعله، أي يكفّره طعامُ مساكين؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية، أي كفّارة من طعام، كما يقال: ثوبُ خزّ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان، فالكفّارة بيّنها الطعام، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع. وجزم بهذا الوجه في «الكشاف»، وفيه تكلَّف. وقرأه الباقون بتنوين {كفارةٌ} ورفع {طعامُ} على أنّه بدل من {كفارة}. وقوله {أو عدْل ذلك صياماً} عطف على {كفّارة} والإشارة إلى الطعام. والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه. وأصل معنى العدل المساواة. وقال الراغب: إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا. وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل: هما مترادفان. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى {طعام مساكين}. وانتصب {صياماً} على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير. وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين. وقال مالك والشافعي: يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً. وقال أبو حنيفة: عن كلّ مُدَّين يوماً، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور: لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين، وقال بعض أهل العلم: لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات. وعن ابن عباس: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة. وقوله {ليذوق} متعلّق بقوله {فجزاء}، واللاّم للتعليل، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره. والذوق مستعار للإحساس بالكدر. شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك. وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات. ففي القرآن {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]، {لا يذوقون فيها الموت} [الدخان: 56]. وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة «ذق عُقق». وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} [النحل: 112]. والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ، والوبيل القوي في السوء {فأخذناه أخذاً وبيلا} [المزمل: 16]. وطعام وبيل: سيّء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستولبه الإبل، أي تستوخمه. قال زهير: إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ *** والأمر: الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً. والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب. وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال: {عفا الله عمّا سلف}، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه. والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور. وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد، وجابر بن زيد: أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء. وهذا شذوذ. ودخلت الفاء في قوله: {فينتقم الله منه} مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي، فالتقدير: فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره، أو لقصد التقوّي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام. ونظيره {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً} [الجن: 13] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز. هذا قول المحقّقين مع توجيهه، ومن النحاة من قال: إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنّه جاء على خلاف الغالب. وقوله: {والله عزيز ذو انتقام} تذييل. والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام، أي لأنّ من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها.
|